إسرائيل وحماس- مأزق استراتيجي متفاقم بعد 7 أكتوبر

يُصوّر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الهجوم الشامل على رفح على أنّه المحطة الختامية الحاسمة التي تفصل إسرائيل عن إعلان الانتصار الساحق في حربها المُستعرة على غزة. ومع ذلك، فإن أغلبية الإسرائيليين قد تخلّوا عن ثقتهم بإدارة نتنياهو المترنّحة، ولم يعودوا يصدّقون الوعود التي يطلقها بشأن الحرب. فمع دخول شهرها الثامن، والعجز العسكري الإسرائيلي المتواصل عن تحقيق أهدافها المعلنة، وتداعياتها الوخيمة على إسرائيل وعلاقاتها المتدهورة بالعالم، وعودة الاهتمام الدولي المتزايد بالقضية الفلسطينية، يتجلى بجلاء أن إسرائيل لا تخسر الحرب تدريجياً فحسب، بل قد صنعت لنفسها مأزقاً إستراتيجياً بالغ التعقيد يصعب الخلاص منه.
وإذا كان الهجوم على رفح مُصمّمًا – كما يزعم نتنياهو بإصرار – للقضاء على الكتائب العسكرية الأربع المتبقية لحركة حماس في قطاع غزة المحاصر، فإن الواقع الميداني على الأرض يُخالف هذه الادعاءات بشكل قاطع. فالمقاومة الفلسطينية الباسلة لا تزال قادرةً على مواصلة القتال ببسالة وإلحاق الخسائر الفادحة بالجيش الإسرائيلي، حتى في المناطق التي سبق أن أعلنت إسرائيل المتغطرسة السيطرة عليها، والقضاء المزعوم على أي وجود للمقاومة فيها.
وعلى عكس الأشهر الماضية، عندما كانت إسرائيل تتعمّد القتل والتدمير الممنهج على نطاق واسع كوسيلة لترسيخ نصر سريع، فإن الهجوم على رفح يبدو مُصمّمًا بدرجة رئيسية كوسيلة للضغط على حركة حماس من أجل انتزاع صفقة ذكية تُساعد نتنياهو على الادّعاء الكاذب بأنه استطاع تحقيق أهداف الحرب، والانصراف بعد ذلك إلى توظيف هذه الصفقة بمهارة فائقة في معركته الداخلية اليائسة للخروج من هذه الحرب بأقلّ ضرر سياسي واجتماعي ممكن عليه.
ومع ذلك، فإن المقترح الإسرائيلي الجديد لإبرام صفقة شاملة مع حماس، والذي أعلنه الرئيس الأميركي المُخضرم جو بايدن وليس نتنياهو نفسه، يُظهر حجم المأزق الإستراتيجي الهائل الذي يواجهه الكيان الإسرائيلي أولًا، ونتنياهو شخصيًا بدرجة أكبر ثانيًا.
فعندما قرَّر نتنياهو في لحظة طائشة إطلاق الحرب، كان هدفه المعلن هو القضاء التام على حركة حماس، وإعادة ترميم الردع الإسرائيلي المتآكل، واستعادة قدرة إسرائيل على مواصلة إدارة الصراع المزمن بالطريقة التي اعتادت عليها قبل هذه الحرب الكارثية. لكن النتائج العكسية المذهلة التي حصدتها إسرائيل ضاعفت من آثار الضربة القاصمة التي تلقتها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
فمن جانب، استطاعت حركة حماس بفضل صمودها الأسطوري إظهار أن القضية الفلسطينية العادلة لا تزال قادرة على التعبير عن نفسها بقوة وثبات، وفي عكس مسار الصراع لصالح الفلسطينيين، وإجبار العالم بأسره على الاعتراف بأنّ الحل العادل، الذي يمنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة الراسخة بالحصول على دولتهم المستقلة والتخلص من الاحتلال البغيض، هو وحده الكفيل بتحقيق السلام الدائم والاستقرار المنشود في المنطقة.
ومن جانب آخر، أفسدت الحرب مساعي إسرائيل الحثيثة لتعزيز اندماجها المشبوه في المنطقة، وسمّمت علاقاتها المتوترة أصلاً مع الغرب، وأظهرت واقعها المرير كدولة متمرّدة على القانون الدولي والإنساني والأعراف الأخلاقية.
يكمن جانب رئيسي من أسباب المأزق الإستراتيجي الإسرائيلي المتفاقم في صمود المقاومة الفلسطينية الباسلة، الذي حوّل مهمّة نتنياهو من حرب خاطفة لإخراج غزة من معادلة الصراع إلى حرب استنزافية تعجز إسرائيل عن الخروج منها بنصر واضح وحاسم. ولم يعد أمام نتنياهو سوى خيارين أحلاهما مر للخروج من هذا المأزق الخانق.
الخياران المطروحان هما: إما مواصلة القتال الشرس لأشهر إضافية أخرى، وربما لسنوات طويلة من أجل تحقيق الأهداف المُعلنة وغير المُعلنة للحرب، وهذا ما لم يعد مُمكنًا بأي حال من الأحوال. أو التخلّي عن هذه الأهداف الوهمية والتفاوض الجاد مع حركة حماس على إنهاء الحرب المدمرة، مقابل استعادة الرهائن الإسرائيليين، والانسحاب الكامل من قطاع غزة.
وبالنظر الفاحص إلى الأهداف الثلاثة الرئيسية المُعلنة للحرب، والمُتمثلة بالقضاء على حركة حماس، واستعادة الرهائن الإسرائيليين، ومنع أن تُشكل غزة تهديدًا لأمن إسرائيل في المستقبل، يظهر بجلاء أنها مُصممة بشكل عام لإخراج غزة بشكل كامل من معادلة الصراع عبر احتلالها عسكريًا وتهجير سكانها الأصليين، وإعادة نشر المستوطنات الإسرائيلية فيها. وهذه كانت في الواقع الأجندة الحقيقية الخفية للحرب.
وحتى في الوقت الذي يتعرّض فيه نتنياهو لضغوط متزايدة من الداخل، ومن الولايات المتحدة نفسها للقبول بتصور واقعي لليوم التالي لنهاية الحرب، فإن مثل هذا التصور لم يعد مُصمّمًا لإدارة انتصار إسرائيل الساحق في غزة، وإنما لإدارة فشلها الذريع في تحقيق أهداف الحرب ولإيجاد مخرج آمن لها من المأزق الإستراتيجي العميق.
إن الأضرار الكبيرة التي لحقت بإسرائيل نتيجة هذه الحرب العدوانية لم يعد بالإمكان إصلاحها بسهولة ولا حتى الحد من تداعياتها الوخيمة. والأبعاد الأكثر أهمية في هذا المأزق لا تقتصر فقط على العجز العسكري الفاضح في تحقيق أهداف الحرب، بل تشمل ثلاثة آثار إستراتيجية مدمرة، أولها، انهيار مفهوم الردع المتين، الذي صمّمته إسرائيل لعقود طويلة لتجنّب حرب بهذا الحجم، وهذا الارتداد الإقليميّ والدوليّ غير المسبوق لها.
فكرة أن إسرائيل ستكون قادرة في المستقبل القريب على ردع هجمات أخرى مماثلة لهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أو خوض حرب واسعة النطاق بكفاءة عسكرية عالية أصبحت موضع شك عميق وتساؤل كبير. ويتمثل الأثر الثاني السلبي بتغذية الحرب للاستقطاب العنيف والانقسام الحاد داخل المجتمع الإسرائيلي حول نظرة الإسرائيليين إلى مستقبلهم بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وهذا الاستقطاب الحاد سيزيد من مُعضلة إسرائيل المزمنة في تشكيل حكومة مستقرة قادرة على الحكم لفترة طويلة.
أما الأثر الثالث الفادح، فيتمثل في إعادة إحياء القضية الفلسطينية وفرض معالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كأولوية قصوى على السياسات الإقليمية والدولية. ويظهر هذا الأثر كتجسيد لأخطر التهديدات التي تواجه اليمين الإسرائيلي المتطرف بعد هذه الحرب الكارثية.
إن فكرة أن إسرائيل قادرة على الاندماج بسلاسة في محيطها الإقليمي المتقلب والغاضب بدون معالجة جوهرية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم تعد واقعية بأي حال من الأحوال بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وقد لا يكون السلوك الحالي، الذي تنتهجه الولايات المتحدة الآن نحو إعادة تبنّي خيار حل الدولتين، مُستدامًا على المدى الطويل؛ لأن إدارة بايدن أوشكت على نهايتها، وقد لا يبقى الديمقراطيون في السلطة بعد الانتخابات القادمة.
لكنّ الحاجة الأميركية الملحة إلى إيجاد حل عادل ودائم لهذا الصراع المعقد ستبقى قائمة بمعزل عن الرئيس الذي سيدخل البيت الأبيض بعد نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل؛ لأنه السبيل الوحيد الذي يُمكن أن يُحول إسرائيل من دولة مارقة إلى دولة طبيعية في هذه المنطقة المضطربة، ويُساعد الولايات المتحدة على تخفيف ارتباطها المكلف بالشرق الأوسط.
وعلى الرغم من أن نتنياهو يُكابر بعناد في الاعتراف الصريح بحقيقة أن إسرائيل تخسر الحرب تدريجياً، ويُظهر للعلن أن عزيمته لم تتزعزع قيد أنملة، لكنّه لم يعد بمقدوره المُضي قدمًا فيها وتجاهل الآثار الإستراتيجية الفادحة لها. فكل يوم يمضي على هذه الحرب العبثية التي لا يُمكن لإسرائيل تحقيق نصر حاسم فيها، لن يعمل سوى على تعميق مأزقها الإستراتيجي المتفاقم في حقبة ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ويجلب لها المزيد من التكاليف البشرية والمادية الباهظة.
